مقال صحفي : تذكرة عن أحداث مارس عقب اندلاع قضية-سونكو_أجي سار…

0
754


“التاريخ دائما يحمل الكثير من الأشواك في طريق الصادقين المخلصين الذين يحملون همّ البلاد ومشروع التغيير والتطوير”

      كتب محمـــــد الأميــــــــــــــن ســيســـــه

تُعدّ السنغالُ من الدول الأكثر استقراراً التي لم تشهد انقلاباً عسكرياً قط، وذلك لطبيعة أهلها المائلة إلى السلْم والأخوّة، وأيضاً لارتباطهم الوثيق بالإسلام الذي هو دين التسامح. ونتيجةً لهذه العوامل تتميز السنغال باستقرار وأمن وسلام بخلاف غيرها من الدول الإفريقية المجاورة لها والبعيدة عنها. وقد استمرت هذه الميزة منذ الاستقلال حتى اليوم إلى أن ظهرت قبْل أيام .أزمة سياسية عنيفة هزت أركان الدولة

عثمان سونكو والمدلكة أجي سار

وتعود جذور هذه الأزمة إلى تهمة وجهتها فئة معينة موالية بالحكومة ضد الزعيم السياسي المعارض عثمان سونكو البالغ من العمر46 عاماً والذي يتمتع بنفوذ سياسي كبير جدا بين الشعب، وهي تتمثل ببعمليات اغتصاب متكررة وعمليات تهديد بالقتل ضد “أجي سار” فتاة في العشرينات من عمرها. وقد بدأت الأحداث في فاتح شهر فبراير المنصرم، وذلك بعدما بدأ المعارض عثمان الذهاب إلى مركز التدليك والتجميل المسمى بـ “سويت بوتي ” في العاصمة السنغالية دكار.

وحسب إفادة المعارض عثمان “فإنه قد ذهب إلى ذلك المركز لأنه كان يعاني من مرض جلدي مزمن لفترة طويلة، وقد أوصاه الأطباء بضرورة استخدام أسلوب التدليك لتخفيف الألم وتلقي العلاج. وخلال العملية التدليكية حصلت هذه الفئة على بعض المعلومات المتعلقة بذهابه إلى مركز التدليك فاستغلوا الفرصة لاتهامه”. ومن هنا بدأت اللعبة من قِبَل أنصار الحزب الحاكم والفتاة التي تعمل في مركز التدليك لإسقاط المعارض ومحاولة تشويش سمعته للرأي العام.

وكانت الفتاة تتباهي بأنها هي التي تدلك المعارض سونكو حتى سمعه أحد أبناء قادة الحزب الحاكم الذي أوصل بدوره المعلومات إلى المعنيين ثم قاموا بوضع خطة لإيقاع السيد سونكو في مؤامرة متعلقة بالجنس، إلا أن الأخير كان يتوخى الحذر لكل الاحتمالات والسيناريوهات المخططة تجاهه.

ومع ذلك تم تقديم شكوى ضد المعارض سونكو من تلك الفتاة، وأثناء عملية التحقيق في مركز الشرطة تم الكشف عن بطاقتين هوييتن للفتاة، في الواحدة منها عمر الفتاة 17 عاماً وفي الأخرى عمرها 20 عاماً، وهكذا بدأت الحقيقة تظهر بشكل تدريجي من خلال هذه البطاقات وأقوالها المتضاربة أمام المحققين.

وبعد أن تم الاستماع للفتاة ومديرة مركز التدليك تبين للمحققين والمسؤولين عن الملف أن الأمر كله مؤامرة سياسية لإسقاط السياسي المعارض عثمان وتشويه سمعته قبْل فترة الانتخابات الرئاسية القادمة، ولكن الجهة الخفية المستفيدة والتي لفّقت القضية تدخلت حتى لا تسقط القضية في المحاكم، وذلك باستخدام المخابرات ورجال الأمن في القضية لمحاولة إثبات دليل يؤدي إلى إدانة السيد عثمان.

                                هل الاتهامات ضد سونكو حقيقيةٌ أم هي مؤامرة سياسية؟

قبْل توجيه الفئة الموالية للنظام الحاكم هاتين التهمتين إلى المعارض عثمان سونكو كانت هناك عدة اتهامات ضده. ومن هذه الاتهامات أنه أصولي متطرف، وأن لديه عقارات مشبوهة، وأنه يقف ضد المشيخة الدينية في السنغال.

اللقاء الأول الذي جمع الرئيس ماكي صال مع المعارض عثمان سونكو في بداية دخول الأزمة الصحية كوفيد- 19في السنغال في مارس 2020 .

والمفاجأة هي أنه دائماً يخرج من هذه التهم بريئاً. وهذا الأمر الذي كان الهدف تشويه سمعته عند العامة كان سبباً كبيرا في شهرته والتفاف الشعب السنغالي حوله.

وبعد التحقيق وشهادات شهود العيّان من العمال في المركز أخذ الأمر يتضح تدريجيا. ومن هنا أدرك الشعب السنغالي أن القضية سياسية بحتة، وأن رئيس الجمهورية لا يزال يرفض فكرة أن يكون له معارض كبير منذ بداية عهده حتى الآن. فقبْل اندلاع قضية سونكو نجح الرئيس مكي سال في تصفية حساباته السياسية ضد بعض المعارضين، أمثال: كريم واد (ابن الرئيس الأسبق عبد الله واد)، حيث تمت إدانته بالإثراء بطريقة غير مشروعة وسرقة المال العام وتمّ سجنه بعد ذلك ست سنوات قبل الإفراج عنه بعد مرور ثلاث سنوات مع نفيه خارج البلاد، وقضية المعارض خليفة سال ليس منا ببعيد، فهو من الذين سجنهم الرئيس ماكي سال وحرمه من المشاركة في الانتخابات الرئاسية لعام 2019، وبعد سباق الانتخابات أطلق سراحُه بعد شهور قليلة، ثم جاء الدور على المعارض سونكو الذي يتمتع بشعبية كبيرة عند الشعب، حيث حاز على المرتبة الثالثة في الانتخابات المذكورة

ومن جانب آخر ففرنسا التي تعتبَر المستعمِرة السابقة للسنغال ليست بعيدة عن الأحداث، حيث تَعتبِر فرنسا سونكو تهديداً لمصالحها في السنغال من خلال خطاباته المعادية للوجود والتأثير الفرنسي في أفريقيا، وهكذا سيكون وصول السيد سونكو إلى سدة الحكم نهاية الهيمنة والسيطرة الفرنسية في السنغال حسب الاحتمالات ؛ ومن هذا المنطلَق يرى ويؤمن كثيرٌ من السنغاليين وغيرهم أن هذه القضية وراءها أيادي خفية بدءاً من الحزب الحاكم وانتهاءً بفرنسا.

                كيف ينظر أنصار المعارض السياسي عثمان سونكو لهذه الاتهامات؟

ويعتبِر الكثير من أنصار المعارض السياسي عثمان سونكو أن رجال القضاء منحازون للرئيس الحالي، لأن القضية لو كانت تبقى في قسم التحقيق للدرك لكان أكثر عدالةً في رأي الأغلبية، ولكن المدعي العام للجمهورية قرّر أن يكون التحقيق في قصر العدالة بدكار، مما أدى إلى زيادة الشكوك حول القضية، ومن هنا أخذت القضية تنتهج منهجاً آخر، وذلك بشروع البرلمان بين ليلة وضحاها في إجراءات رفع الحصانة عن النائب السياسي عثمان سونكو للمثول أمام القضاء

في نقطة صحفية، يدعو زعيم باستيف الشباب إلى الصمود والتصدي للظلم والاستبداد في السنغال

وبعد أن رفض المثول أمام القضاء بناء على الدعوى التي رُفعت ضده من قِبل الفتاة “آجي سار” عقَد المتهَم سونكو مؤتمراً صحفياً لتسليط الضوء على القضية، حيث أكد أن القضية ملفّقة ودعا الشعب وأنصاره إلى التصدي لهذه الادعاءات الباطلة، لأنّ هدف الرئيس مكي سال هو رميه في القفص ومنعه من المشاركة في الانتخابات القادمة، وبالتالي فإنه لا يستجيب لدعوة القاضي في مسألة سياسية تافهة كهذه، وبعد وساطة مِن شيخه ومن بعض أعيان الدولة قَبِل سونكو المثول أمام المحكمة.

لحظة اعتقال النائب عثمان سونكو من قبل عناصر التدخل السريع في الدرك الوطني بتهمة الإخلال بالنظام العام

وفي طريق ذهابه إلى المحكمة تم منْعه من قِبل الشرطة من المرور في الطريق التي أرادها وإجباره على سلوك طريق أخرى. وحسب بعض الروايات فإنه قد تم وضْع بلاطجة مسلحين في الطريق للهجوم عليه، ولكنه تنبه للخطة ورفض المرور بالطريق المقترَحة، وفي النهاية اختطفته عناصر التدخل السريع واقتادته نحو قسم التحقيق، وتم توجيه العديد من التهم ضده كالإخلال بالنظام العام وغيره…

وقد كان هذا الحدث هو الشرارة التي أدت إلى اضطرابات وإلى اندلاع مظاهرات عنيفة في جميع أنحاء البلاد. وقد توجه المتظاهرون إلى مراكز الشرطة وقاموا باستهداف المنشآت الفرنسية كمتاجر “أوشان”، كما تم حرق وتخريب الكثير من محطات البنزين “توتال” ونحوها، كما تم مهاجمة بعض مراكز الشرطة والمحاكم وإدارات البلديات وغيرها من المؤسسات الحكومية من قِبل المتظاهرين الغاضبين.

وقد خلّفت هذه المظاهرات الشعبية خسائر بشرية ومادية كبيرة، كما تسبّبت في أعمال شغب ونهب في معظم أنحاء البلاد، ورغم الوساطة التي قام بها بعض الساسة والطوائف الدينية المتنوعة في البلاد إلا أن الرئيس ماكي سال ادعى أنه لا علاقة له بالقضية المرفوعة ضد المعارض سونكو، وبالتالي رفض التدخل في القضية لإنهاء الأزمة. فانطلاقاً من هذا يرى كثير من الناس بأن الرئيس هو المسؤول عن المؤامرة في هذه القضية. وهكذا استمرت الأزمة، وبعد خسائر مادية وبشرية كبيرةٍ نتيجةً لهذه الاضطرابات التي استمرت ما بين 3 إلى 8 مارس تراجع الرئيس بعد خمسة أيام ساخنة لم تشهد البلاد مظاهرات عنيفة مثلها قط، وتم الإفراج عن المعارض سونكو مع وضعه تحت المراقبة القضائية.

وقبل وضع النقطة النهائية حول هذه القضية تعالوا بنا نتعرف على المعارض عثمان سونكو، ولماذا وقف معه الشعب السنغالي؟

كان السيد سونكو قد عمل كمدير مصلحة الضرائب لفترة طويلة وحارب الفساد والرشوة مع مراقبة الشركات والمؤسسات التابعة للحكومة، وذلك قبل أن يتم فصله من منصبه من قِبل رئيس الجمهورية ماكي سال، وذلك بعد أن أسس حزبا سياسيا مع بعض زملائه في مصلحة الضرائب. وبدخوله في عالم السياسة بدأت تظهر شخصية سياسية جديدة، وهي شخصية تختلف كثيرا عن بقية السياسيين الذين يسعون لملأ بطونهم وجيوبهم. ولكن التاريخ دائما يحمل الكثير من الأشواك في طريق الصادقين المخلصين الذين يحملون همّ البلاد ومشروع التغيير والتطوير أمثال ممد جاه الذي دبَّر “سنغور” الرئيسُ الأول مؤامرة ضده آنذاك، وتم حبسه 12 عاما لوأد مشروعه، وكذلك تم حبس شاب آخر يُدْعى عمر بولند جوب الذي كان له نفس المشروع لإيقاظ العقل النائم من أبناء جلدته وتم تصفيته كأمثاله من الذين يطمحون في التغيير، وهكذا كان حال المؤرخ الكبير الشيخ أَنْتَ جُوب الذي كان ولا زال مثالا يُحتذَى في إفريقيا، فكل هؤلاء تم تصفيتهم وإبعادهم عن السياسة وغلْق الطريق أمامهم. وقد تعلم السنغاليون درسا مريرا وقاسيا من تلك الأحداث التاريخية التي ذكرناها آنفا، ولذلك وقفوا وقفة رجل واحد ورفضوا أن يعيد التاريخ نفسه بإقصاء وتصفية زعيم سياسي يُرجَى فيه خيرٌ، لأن الشعب السنغالي فهِم من الأحداث التاريخية أن أمثال هذه القضيايا ليست إلا مؤامرة دُبِّرت بليل. وبالتالي رفض السنغاليون أن تتم سرقه مستقبلهم بتصفية الكوادر الصادقة كماحدث لهؤلاء الأبطال المذكورين آنفاً.
وخلاصة الكلام: إن الشعب السنغالي في هذه المرة قد أخذ زمام الأمور بجدية ووعي كبير، كما أظهر أنه صاحب القرار الحقيقي وأنه صاحب الصوت الأقوى، وهذا التحرك والوعي الشعبي يعكس ويُظهر حقيقة الشعب السنغالي، ففي السابق انتشرت فكرةُ أن السنغاليين شعب متعاطف مسالم كارهٌ للعنف، وأنه شعبٌ غير مستعد للمقاومة لأجل الوطن. ولكن هذه القضية أظهرت أن الشعب السنغالي شعب حر مستعد للدفاع عن حقوقه وقضاياه العادلة بماله وروحه، وأنه هو صاحب القول الفصل في تقرير واختيار القادة الذين سيحكمون البلاد.

idrakpost.com/ar

LAISSER UN COMMENTAIRE

S'il vous plaît entrez votre commentaire!
S'il vous plaît entrez votre nom ici